نوار ملحم
لا يمكن للمراقب لمسار الأزمات والحروب التي تشهدها أكثر من منطقة أو بقعة جغرافية في العالم، إلّا أن يلاحظ الارتباطات سواءً المباشرة أو غير المباشرة فيما بينها، ولاشك أن تلك النزاعات والحروب ذات أبعاد متعددة ولا يمكن إضفاء طابع أو صفة معينة على أيّ منها، بل هي عموماً تدخل في إطار من التّعقيد والتّشابك بين الكثير من الأسباب والعوامل، وبالطَّبع هي لا توحي للأسف باستقرار قريب يمكن أن تشهده منطقة غربي آسيا أو شمال أفريقية أو شرق المتوسط وغيرها من الأقاليم الأخرى، بل يبدو أنَّ الأمور ستزداد انحداراً وربما ستدخل الصّراعات النائمة في أوروبا مرحلةً جديدة في المستقبل القريب.
ولكن إذا ما أراد المتابع تسليط الضوء على النزاعات والحروب القائمة حالياً سواءً في سورية أو شرق المتوسط أو ليبيا ومؤخراً في كاراباخ، سيلاحظ أنَّ العامل التركي هو عامل أساسي في حالة انعدام الاستقرار التي تعاني منها هذه المناطق عموماً، مع الأخذ بعين الاعتبار أن السلوك التركي لا يمكن أن يكون مستقلاً بالمطلق بل في حيثيات مهمة وأساسية تكون الاندفاعة التركية في إطار الاستراتيجية الأميركية العامة باعتبار أنّ أنقرة عضو هام في حلف شمال الأطلسي الذي تتزعمه الولايات المتحدة، و بالرغم من بعض التناقضات التكتيكية التي يمكن أن تظهر بين الحين والآخر بين كل من أنقرة وواشنطن، ولكن في المعطى الاستراتيجي العام هناك اتفاق وتنسيق بشكل دائم، وهذا لسبب بسيط فتركيا ليست لديها مقومات الدولة العظمى على المستوى العالمي لأسباب كثيرة لا مجال للتوسع بها هنا، وبالتَّالي لا يمكنها أن تكون مستقلة بالمطلق عن توجهات القوى العظمى المؤثرة حالياً وبالتحديد الولايات المتحدة الأميركية.
ولكن أيضاً مما لا شكَّ فيه أن السياسات الهجومية التركية في كاراباخ أو غيرها، ما كانت لتحدث لولا نقطة الاستناد الجوهرية التي ارتكزت إليها مجمل تلك السياسات التَّوسعية والمقصود هنا الحرب في سورية، بمعنى آخر تمثّل النَّتائج المؤقتة الحالية للحرب في سورية، النُّقطة الأساسية التي تمكَّنت من خلالها تركيا من بسط نفوذها إلى مناطق أخرى بعيدة أو قريبة( ليبيا، شرق المتوسط، كاراباخ ….).
وفقاً لما سبق، وبنظرة منطقية يمكن القول أنَّه إذا ما أُرِيدَ تعطيل هذا المشروع التركي الخطير والمزعزع للاستقرار، لا بدَّ أن تكون سورية هي محور العمل، فسورية هي القلب والقيمة الاستراتيجية الكبرى التي بالطَّبع ولأسبابٍ كثيرة تتعدَّى في أهميتها الجيوبوليتيكية كل من كاراباخ وليبيا على سبيل المثال، كمثال بسيط على هذا الموضوع يمكن الإضاءة على موضوع الحالة الإرهابية في سورية، فتمدد الإرهاب والأفكار المتطرفة في هذا البلد هو الذي أوجد البيئة المثالية لانتشار هذه الأفكار حتى إلى أوروبا، وهو الذي سمح لكل من واشنطن وأنقرة بنقل آلاف المرتزقة من أصحاب الفكر المتطرف للقتال في جبهات أخرى وبالتالي زعزعة الاستقرار والسّلم الاجتماعي في العديد من الدول العربية والإسلامية.
وفي سورية أيضاً يمكن أن تكون احتمالات فشل المشروع العثماني الأردوغاني عالية، باعتبار أنَّ هناك دولة سورية بالرَّغم من كل النكبات مازالت قادرة على الوقوف في وجه الاندفاعة التركية المتهورة، كما أنَّ وجود كل من روسيا وإيران وفي حال تمَّ التنسيق بشكل عملي بين هذه القوى سيكون بالإمكان وضع حد نهائي لأنشطة أردوغان اللامسؤولة وغير القانونية التي تستهدف سيادة الدُّول وتعرّض حياة العديد من مكونات شعوب هذه المنطقة لخطر التَّهديد الوجودي الفعلي.
في هذا المجال بالتَّحديد ربما من الحكمة النَّظر إلى طبيعة الموقف الروسي من تلك السلوكيات التركية، إذ إنّ هذا السلوك لا يَدَع مجالاً للشك في أنَّ أردوغان لن يتردّد بنقل تلك الصّراعات عندما تُتَاح له الفرصة إلى العمق الروسي نفسه، خاصةً بوجود نسبة هامة من الشعوب الروسية هي من أصول تركية ويمكن لتركيا التأثير عليهم، كما أن الاضطرابات التي باتت تنتشر على طول الدول السوفياتية السابقة المجاورة مباشرةً للحدود الروسية (بيلاروسيا، أوكرانيا، أرمينيا وأذربيجان، قيرغيزستان….) باتت في الحقيقة تشكل تهديداً حقيقياً للأمن القومي الروسي ولا يخفى العاملين الأطلسي ومن ضمنه التركي في إثارة تلك النزاعات على الحدود الروسية.
في الإطار السابق ومع الأخذ بعين الاعتبار الخطوط العامة للاستراتيجية الروسية التي تعتبر أنَّ منطقة شرق ووسط أوروبا ذات أهمية حيوية للمصالح الروسية أكثر من منطقة غربي آسيا أو الشَّرق الأوسط عموماً، وهذا المبدأ ثابت في توجهات السياسة الخارجية الروسية، ولكن في هذه النقطة الاستثنائية من التاريخ والوقائع وباعتبار أن العامل التركي لديه امتدادات عبر البحر الأسود إلى شرق ووسط أوروبا، وهو في نفس الوقت لديه امتداداته المعروفة في منطقة غرب آسيا، ومفتاح التعطيل للمشروع التركي ومن خلفه الأطلسي موجود في غرب آسيا وبالتحديد في سورية وليس في أي مكان آخر….لذا ربما سيكون من الأفضل أن تعمل موسكو بفعالية مع كل من دمشق وحلفائها الآخرين لإفشال هذا المشروع، والطريق السليم إلى هذا الطريق هو استعادة الدولة السورية لكامل سيادتها الحقيقية على كل الأراضي التي هي خارج سيطرتها الآن وبناء مشروعها السياسي المستقل بعيداً عن أي أجندات تركية أو غير تركية.
فالحزم في سورية ضروري في هذه المرحلة الخطيرة، قبل أن تصبح التَّكاليف باهظة أكثر في المستقبل سواءً على الشعب الروسي أو شعوب المنطقة وحتى الشعب التركي نفسه.