السبت , 10 يونيو 2023

نماذج في الهندسة الاجتماعية

نوار ملحم

تكتسب دراسة العلوم الاجتماعية بصفة عامة أهميةً متزايدة باعتبار أنَّ أغلب الأزمات التي باتت تعانيها العديد من الدُّول هي أزمات ذات جذورٍ اجتماعية، بل إن العديد من الدول العظمى تاريخياً لم تسقط بفعل الحروب الخارجية والاحتلال من قبل دولةٍ أخرى، وإنما بفعل عوامل تتعلق بتخلخل البنية الداخلية لتلك الدول والمثال الأحدث على هذا الموضوع هو الاتحاد السوفياتي السابق، طبعاً من دون إغفال عوامل التدخل الخارجية التي فاقمت المشكلات البنيوية الداخلية الموجودة أصلاً، والتاريخ يوضّح أيضاً أنَّه حتى الدُّول والإمبراطوريات التي سقطت بفعل الغزو الخارجي مثلاً، غالباً ما كانت تعاني من حالة الضَّعف والتَّفتت المجتمعي الداخلي بالرَّغم من قوتها الظاهرية  كالإمبراطورية الرومانية الغربية والدولة العباسية على سبيل المثال.

في العصر الحديث وبالتحديد في السَّنوات العشر الأخيرة ، بدأت تظهر للعلن وبشكلٍ متواتر ملامح لتغييرات اجتماعية تطال العديد من الدول في إطار ما يُسمَّى بالهندسة الاجتماعية، هذا الإطار يحتوي على العديد من العمليات ذات الأبعاد المجتمعية الهادفة للتغيير مثلاً: (التغييرات الديموغرافية، التوجهات القومية أو الدينية المتشددة، التجنيس ….).

في الإطار السابق تشكّل التغييرات الاجتماعية التي يقودها زعماء السعودية وتركيا أحد النماذج الهامة التي تستدعي الانتباه.

بالنسبة لتركيا، لقد بات من غير الخفي السياسات الداخلية والخارجية التي يقودها حزب العدالة والتنمية لجعل المجتمع التركي أكثر راديكالية واستقطاباً، وهذا الأمر بات لا يخص المجتمع التركي وحده بل انتقلت عدواه إلى مجتمعات مجاورة وأخرى بعيدة في العالمين العربي والإسلامي وحتى ضمن الجاليات في الغرب، وأيضاً ساهمت المقولات الشَّعبوية المتعلقة بإحياء الإمبراطورية العثمانية وبعض السياسات الداخلية والخارجية من قبيل التدخلات المباشرة في كل من سورية والعراق ومؤخراً في كاراباخ، وبعض القضايا الطائفية والقومية التي تتم إثارتها في الداخل من وقتٍ لآخر، لقد شكّلت كل تلك القضايا مادةً خصبة لزيادة الاستقطاب والانشقاق في المجتمع، ورفع مستوى العنف والكراهية.

على الجانب المقابل أي في المملكة العربية السعودية تبدو التغييرات التي تحدث معاكسة تماماً للسياق الذي يحدث في تركيا، حيث يتم الانتقال من نموذج الدولة الوهابية المتشددة إلى نموذج الانفتاح وكسر المحرّمات السابقة بطريقة دراماتيكية لم يشهدها المجتمع السعودي من قبل، ولا نبالغ إذا قلنا أنَّ تلك التَّغييرات كانت مفاجئة حتى لهذا المجتمع نفسه وللمراقبين للشأن المجتمعي السُّعودي عموماً.

بالمقارنة السَّريعة بين النموذجين السَّابقين يمكن الوصول إلى بعض الاستنتاجات الأولية الملفتة للنظر:

  • حالة التعاكس في اتجاه التغييرات الاجتماعية حيث تزداد تركيا تشدداً وتتخلَّى بشكل متسارع عن علمانيتها المعهودة، بالمقابل تصبح السعودية أكثر انفتاحاً وتتخلى بشكلٍ مفاجئ عن تشدّدها الوهابي المعروف.
  • في كلا الحالتين التغييرات السابقة تحدث بشكل مفاجئ وغير منظم ولا تراعي المكونات المختلفة الموجودة في المجتمع ، وفي الحقيقة مثل تلك التغييرات المفاجئة وسريعة الحركة وغير المنسجمة مع الطبيعة الحقيقية للمجتمع، ستجعل من غير المضمون استمرار الاستقرار الاجتماعي على المديين المتوسط والبعيد، خاصةً في حال حدوث ظروف خارجية تشكل ضغطاً على تلك الدول كالمشكلات الاقتصادية على سبيل المثال، وارتفاع كلفة التدخلات الخارجية التي لاتتناسب مع القدرات الحقيقية لها.
  • أيضاً المسارات السابقة تطرح بعض التساؤلات حول الاستقلالية الحقيقية في إجراء مثل تلك التغييرات، حيث كان من الأفضل أن تكون تركيا وبحكم موقعها الجغرافي وتكوينها الاجتماعي المميّز بلداً جامعاً للحضارات وناشراً للسلام والاستقرار مع الحفاظ بالطَّبع على الخصوصية الإسلامية، لا أن تكون بلداً محرضاً على الحروب وعدم الاستقرار وصدام الحضارات حتى مع بعض الدُّول المسلمة الأخرى، كما أنَّ السُّعودية وبحكم خصوصيتها الدينية ربما كان من الأفضل لها أن تكون بلداً منسجماً مع تاريخه وتراثه ومكانته المميزة في العالمين العربي والإسلامي ولكن بالطَّبع ليس على قاعدة الوهابية والتشدد اللذين سبّبا العديد من المآسي لشعوب المنطقة والعالم.

في الختام يمكن القول، أنَّ الموضوع السَّابق وبما أنه يتعلق بالظواهر الاجتماعية التي هي من أصعب القضايا لإمكانية القياس والتَّنبؤ الموضوعي، لذا فهو بحاجة للمزيد من الدّراسة والبحث وما تم ذكره في هذا المقال يشكّل نظرة مبدئية وأوليّة ربما تساعد في الإضاءة على أهمية العلوم المجتمعية خصوصاً في هذه المرحلة الصَّعبة من تاريخ المنطقة.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

واحد × 1 =